المتسولون لعنة رمضانية على الأثرياء
منبر الأخبار
بقلم الدكتور عوض أحمد العلقمي
لقد بلغت المجاعة منزلة مخيفة ومؤلمة إذ تمكنت من الطبقات الفقيرة التي تمثل السواد الأعظم من الشعب ، ولم تنج منها إلا الطبقة المتخمة إذ لم تعد في بلادنا طبقة متوسطة ، واقتصر الأمر على طبقتين فقط ؛ الأولى الطبقة الدنيا التي أصبحت فريسة سهلة للمجاعة والأمراض ، والأخرى هي الطبقة العليا التي تتلذذ بحياة التخمة والتسوق في المولات الفارهة وتناول الوجبات في المطاعم الراقية . أظن أن هذا أمر يدركه الصغير والكبير في بلادنا ، غير أن مارأيته الليلة قبل الإفطار يستحق أن أسرده عليكم ، لعل فيه موعظة للمتقين أو شيئا مسموعا لمن أراد أن يلقي السمع وهو بصير ...
خرجت مساء أمس بعد العصر قاصدا شراء بعض الاحتياجات والاستمتاع بالأجواء الرمضانية ، غير أن ذلك لم يتحقق ، وعدت وأنا مثقل بالأحزان ، مشبع بالآلام ، بل عدت وقد ترك انحدار الدمع على خدي علاماته الظاهرة ، سابقا القلب والعقل في التعبير عن المشاعر والأحاسيس مما رأيت ، لقد رأيت من المتسولين مايفوق عدد المتسوقين ، منهم أسرا بأسرها تفترش الأرصفة ، الأطفال الرضع نيام ، والذين أكبر منهم يتسلقون المركبات لعل من المارة من يجود عليهم بشيء من الطعام ، والآباء والأمهات يقفون على الطريق مادين الأيادي يتسولون المارة شيئا من الطعام يسدون به الرمق هم وأطفالهم ، أما أنا فقد نسيت نفسي من هول الموقف ، وبقيت في خوف من أن أدهس طفلا أو طفلة من أولئك المنتشرين بين المركبات ، يرجون منا أن نجود عليهم بشيء من الطعام ، ترجلت من مركبتي سائرا في أحد الأسواق الشعبية لشراء شيء من الأطعمة والفاكهة وإذا بطابور من الجياع يتبعني حيث أمشي وإذا وقفت وقفوا بجانبي ، يرددون القول : نحن جياع ياعم ، هلا ابتعت لنا شيئا من هذه الأطعمة ، إننا لانستطيع ابتياع شيء منها ، فضلا عن خلو منازلنا من الطعام ، عدت إلى المنزل وأنا أحمل من الهموم مالاتحمله الجبال ، أفطرت عند أذان المغرب ثم ذهبت للصلاة جماعة في المسجد ، وما أن سلم الإمام حتى تسابقت أصوات الجياع وبكائهم ، من بين المصلين ومن كل مكان في المسجد ، يرجون من إخوتهم الميسورين أن يجودوا عليهم ولو بالشيء الزهيد من الطعام والماء أو بشيء من المال لابتياع الدواء ، خرجت من المسجد قاصدا المنزل وقد بدأ الظلام يسدل أستاره على ماتبقى من الشفق ، وإذا بأشخاص لم أعد أستطيع التمييز بينهم أكانوا ذكورا أم إناثا - لاختفاء ضوء الكهرباء إذ كانت في استراحة كما يبدو - حول براميل القمامة ، عند ذلك سألت ابني ، إذ كان بجانبي مذ خرجنا من المسجد ، ماذا يفعل هؤلاء يابني ؟ قال : إنهم يبعثرون القمامة ويفتشونها قطعة قطعة علهم يعثرون على شيء من مخلفات الطعام يسدون به رمقهم يا أبي ، نعم يابني فالمجاعة قد أضحت أمرا واقعا استوطنت البلاد وأنهكت كاهل العباد ، لكن ألا يوجد حل لهذه الجائحة التي شرعت في حصد أرواح الفقراء والمعدمين يا أبي ؟ بلى يابني هناك حلول كثيرة ، ولكنها تقتصر على الأثريا فقط ؛ أكانوا ممن تسلطوا على البلاد وأثروا على حساب العباد ، أم كانوا من رجال المال والأعمال ، وكيف يا أبي ؟ على رسلك يابني سوف أوضح لك الأمر ، في عهد خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز ، كانت الصدقات تعود من أفريقيا إلى بيت مال المسلمين في دمشق إذ لاحاجة لهم بها ، وهل وصل الأمر بالأمة الإسلامية أن تكون كلها في ثراء حتى تستغني عن الصدقات يا أبي ؟ اسمع يابني لقد تولى عمر بن عبد العزيز أمر المسلمين ، وقام بتطبيق القانون : من أين لك هذا ؟ فاستعاد بذلك أموال المسلمين النقدية والعينية من أيدي اللصوص والفاسدين والمتنفذين ، ثم أعاد توزيعها للفقراء والمساكين ، وكفل الأيتام والعجزة والمحتاجين ، وأصلح شؤون الأمة وأقام العدل بين الناس ، فضلا عن أن الأمة في ذلك الوقت لم تكن تعاني من الطمع والجشع كما هو اليوم ، إذ كان الواحد منهم إذا امتلك قوت يومه وغده رفض الصدقة ، وقال : اعطوها غيري قد يكون في حاجة لها أكثر مني ، الله يا أبي ، كم كانت أمتنا عظيمة !!!