مدينة زبيد اليمنية: تاريخ عريق بين الإهمال الحكومي وسيطرة المليشيات الحوثية ..
بقلم الكاتب / عبدالجبار سلمان ..
تعتبر "زبيد" أول مدينة إسلامية في اليمن، فقد اختطها محمد بن زياد مؤسس الدولة الزيادية في العام 204هـ وحصنها بالقلاع والأسوار والخنادق، وأعلن عن قيام الدولة الزيادية وعاصمتها مدينة زبيد، وعليه اصبحت هذه المدينة عاصمة لليمن منذ ذلك التاريخ ولمئات السنين..
وقد ظلت عاصمة ومركز حكم للدويلات المتعاقبة مثل الدولة النجاحية والمهدية، ومركز علم وثقافة في عهد الدولة الأيوبية والرسولية والطاهرية في عهد المماليك، ثم أصبحت بعد ذلك مركزاً إدارياً وثقافياً. أيضاً كانت موطناً للعديد من العلماء البارزين واحتضنت مئات المدارس والمساجد. من أبرز العلماء الذين عاشوا ودرسوا في زبيد الإمام الشوكاني، وهو من العلماء الذين أثروا بشكل كبير في الفقه الإسلامي..
كما ضمت المدينة العديد من المساجد التاريخية التي يعود بعضها إلى العصور الأولى من الإسلام، وأهمها الجامع الكبير الذي أسسه أبو موسى الأشعري في عام 628م، والذي يُعتبر من أقدم المساجد في اليمن. بالإضافة الى ذلك زار الرحالة ابن بطوطة اليمن وامتدت زيارته إلى مدينة زبيد فأعجب بها ووصفها وصفاً بليغاً أشاد فيه بشمائل أهلها وحسن خلقهم حيث قال: "زبيد مدينة عظيمة باليمن، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها، ولا أغنى من أهلها، واسعة البساتين كثيرة والفواكه من الموز وغيره، كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها، ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور". .
على مر التاريخ، كانت زبيد مركزًا سياسيًا واقتصاديًا حيويًا في اليمن. وقد لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل الدولة اليمنية في فترات تاريخية مختلفة. كانت المدينة عاصمةً للعديد من الدول والإمارات المحلية مثل الزيادية والإسماعيلية، كما كانت موقعًا استراتيجيًا هامًا للتجارة بفضل موقعها القريب من البحر الأحمر. خلال القرن العاشر والثاني عشر الميلادي، بلغت زبيد أوج قوتها باعتبارها مركزًا للحكم وللتجارة، حيث ارتبطت بالطرق التجارية الهامة التي تربط الجزيرة العربية بشرق إفريقيا وآسيا. موقعها الجغرافي بين الساحل والداخل جعلها مركزًا لتبادل البضائع بين المناطق اليمنية المختلفة وبين إفريقيا وشبه الجزيرة العربية..
كانت المدينة معروفة أيضًا بصناعتها التقليدية، مثل صناعة النسيج، والتي كانت أحد أهم مصادر الدخل لسكان المدينة. إضافةً إلى ذلك، كانت زبيد تشتهر بزراعة البن، والفواكة، وأنواع مختلفة من البذور والنباتات العطرية والذي كان يُصدر إلى العديد من المناطق المجاورة، مما أسهم في ازدهار اقتصاد المدينة في مراحل مختلفة من تاريخها. ونظراً لمكانتها العالمية فقد أصدرت منظمة اليونسكو عام 1993 قراراً باعتبار المدينة معلماً حضارياً تاريخياً ضمن معالم التراث الإنساني العالمي...
وفى مارس من العام 1998 صنفت ضمن المدن التاريخية العالمية. وعلى الرغم من هذه الأهمية الكبيرة، لا تزال زبيد تعاني من إهمال الحكومات المتعاقبة في اليمن، إلى جانب التدهور الكبير في أوضاعها بسبب سيطرة مليشيا الحوثي مؤخراً. البنية التحتية في المدينة تدهورت بشكل كبير، ولم تشهد أي جهود جدية للحفاظ على التراث المعماري الثري الذي تزخر به. المباني الأثرية والمساجد القديمة تعرضت للإهمال، وبعضها بات مهددًا بالانهيار...
في السنوات الأخيرة، تفاقمت معاناة المدينة مع سيطرة مليشيا الحوثي عليها. منذ عام 2015، عندما دخلت المدينة تحت سيطرة الحوثيين، تفاقمت الأوضاع الإنسانية والخدمية. مليشيا الحوثي لم تهتم بتطوير المدينة أو الحفاظ على تراثها، بل على العكس، زادت من تدهور الوضع الأمني والمعيشي فيها. السكان المحليون يعانون من نقص الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه والتعليم والصحة، وانتشار البطالة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراعات المستمرة جعلت الوصول إلى المدينة صعبًا، وهو ما أثر سلبًا على نشاطها التجاري وزاد من عزلتها. في النهاية، تظل زبيد شاهدة على فترات مضيئة من تاريخ اليمن، رغم ما تعانيه اليوم من إهمال وتهميش...
تحتاج المدينة إلى جهود مكثفة للحفاظ على تراثها وتطوير بنيتها التحتية وخدماتها العامة. إن حماية زبيد ليست مسؤولية محلية فقط، بل هي مسؤولية دولية أيضًا نظرًا لإدراج المدينة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو. وعلى الرغم من التحديات، يبقى الأمل في أن تجد زبيد من يعيد لها مكانتها التاريخية ويُصلح ما أفسدته الحروب والإهمال...