قيم السلام ووسام اليوم العالمي للسلام من أم الدنيا....
الكاتب / الاستاذ الدكتور قاسم المحبشي..
مع خالص الشكر والتقدير للأكاديمية الدولية
للدراسات والعلوم الانسانية وإدارتها الرشيدة
ربما منحتني خلوتي الراهنة في إمستردام فرصة سانحة، لإعادة قراءة، فلسفة التاريخ عند إمانويل كانط ( 1724- 1804) الذي مررت عليه مرور الكرام، إثناء إعداد أطروحة الدكتوراه ،في فلسفة التاريخ بالفكر الغربي المعاصر في جامعة بغداد كلية الآداب، قسم الفلسفة، بإشراف الأستاذ الراحل مدني صالح بتاريخ 26 سبتمبر 2004م. بعد عشرين عام المناقشة اعتراف بأنني ارتكبت خطاءا فادحا في عدم إبلاء فيلسوف العقل المحض والسلام الدائم ما يستحقه من القراءة والبحث والاهتمام وها هو الآن يعيدني إليه رغما عني طالما وقد عزمت البحث في فكرة المستقبل وفلسفة التقدم التاريخي للعالم الراهن الساعي إلى تحقيق السلام العالمي الدائم. مع كانط لا تغمض عينك وأنت تحلق في عوالمه الفلسفية المثير للدهشة والفضول المتزايد الاتساع..
وأنا أعيد قراءة كانط من الشرفة المئوية الثالثة لميلاده بتحفيز من الأستاذ الدكتور أحمد عبدالحليم عطية، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ، إذ بعث لي مشكورا ببرنامج احتفائية جامعة القاهرة بالمئوية الثالثة لميلاد الفيلسوف كانط بتاريخ 22 أبريل/نيسان عام 1724 في مدينة كونجسبرغ بألمانيا (بروسيا آنذاك) إذ جاء بالبرشور ما يلي" تقيم جامعة القاهرة 20-22 ابريل 2024 الملتقى الفلسفي الدولي بمناسبة المئوية الثالثة للفيلسوف الألماني کانط بهدف الاحتفال بمناسبة تاريخية للفيلسوف الكبير الذي حدد مسار الفلسفة الحديثة فيلسوف ؛ العقل والنقد والتنوير والسلام العالمي. البحث في الفلسفة الكانطية العقلانية النقدية في القضايا المختلفة التى يحياها العالم اليوم، خاصة ما يتعلق بـ " الدين في حدود العقل . " والسلام العالمي وأخلاقيات العالم المعاصر"..
وجدتها فرصة سانحة للعودة إلى أرسطو الفلسفة الحديثة وفيلسوف التنوير الذي أحبه رغم أنني لم أمنحه ما يستحق من القراءة والاهتمام الجدير بمفكر عظيم مثله. إذ يعد بحق أهم فيلسوف في العصور الحديثة إذ شكلت فلسفته علامة فارقة في تاريخ الأفكار إذ " كانت المعرفة قبل كانط تنقسم إلى قسمين في الفلسفة: المذهب العقلاني الذي يرى أن المعرفة هي نتاج عقلي محض، من خلال أفكار فطرية وقبلية يتضمنها العقل، وبالعقل وحده يمكننا تفسير الوجود والواقع، من خلال عملية التفكير ومبادئها الرياضية التي وضعها ديكارت. ومذهب تجريبي حسي كان يرى أن المعرفة تأتي من التجربة والحواس المستنبطة من العالم الخارجي، وإن العقل مجرد أداة فقط تتأثر بالحواس وتنتج لنا المعرفة. جاء كانط ليصهر أسس المعرفة القديمة في قالب خاص، بعد أن مزج المذهبين في فلسفة مستقلة بأصولها وقواعدها العلمية والأخلاقية، فقسم العقل أو الذهن إلى ثلاث ملكات هي: (المعرفة) (الإرادة) (الحكم) وقد خصص لكل ملكة كتابا تناول كل منها في التقييم والتحليل : نقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم"( ينظر، أوس حسن , كانط وزنزانة الفلسفة، موقع، القدس العربي، 14 ديسنمبر 2020)...
وكما تمكن كانط في دمج النسقين الفلسفيين الحدثيين الكبيرين في نسق فلسفي عقلاني جديد كذلك فعل مع النزعتين المتضادتين في النظر إلى التاريخ التن هيمن على أفق القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي واليكم المواقف الذي واجهه فيلسوف العقل الخالص...
لسنا بحاجة إلى التأكيد اليوم ونحن نحتفي بالذكرى المئوية الثالثة لميلاد فيلسوف العقل المحض بان سؤال السلام الدائم الذي طرحه قبل 250 عاما بات سؤالًا ملحا في عالم أضحى بفضل ثورة المعلومات والاتصال شديد التقارب والتداخل والتفاعل بعد انكماش الزمان والمكان وصيرورة العالم قرية كونية صغيرة يتشارك سكانها كل حوادثها واحداثه واخبارها وخيراتها وشرورها إذ يمكن للناس أن يتبادوا تحية الصباح كل يوم من طرف الأرض إلى طرفها بل يمكنهم أن يتحاوروا ويتخاصموا ويتقاتلوا في أي لحظة كما يحدث في القرية الصغيرة في أقصى الريف فالعولمة إذن هي العالم وقد أصبح قرية صغيرة يعرف أهلها عنها كلَّ شاردة وواردة ، كل صغيرة وكبيرة. وكلما زاد ارتباط الناس ببعضهم البعض كلما زادت حاجتهم لقيم التسامح والتعايش والحوار إذ إن خطاب التسامح والتقبل والحوار تستدعيه الحاجة والرغبة المشتركة للبحث في أفضل السبل الممكنة والآمنة للعيش والتعايش الاجتماعي السياسي المشترك لجميع الناس في بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية ونفسية عالمية منظمة ومستقرة وأمنة...
ولسنا بحاجة إلى التذكير بمدى احتياج مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلى قيم التعايش والتسامح والقبول والتقبل المتبادل لاسيما بعد أن شهدت تاريخ طويل من النزاعات الدموية والحروب الكارثة.وعلى مدى السنوات الماضية استقطبت ظاهرة التقارب والاحتكاك والتصادم بين الشعوب والحضارات والثقافات والإفراد، وما صاحبها من شيوع وانتشار لقيم العنف والتعصب والإرهاب على الصعيد العالمي اهتمام عدد واسع من الدارسين والكتاب والهيئات وأخذت الدوائر الأكاديمية والثقافية تعقد المؤتمرات والندوات والنقاشات في كل البلدان..،
بشأن قضايا العولمة وحوار الحضارات والثقافات والاديان والتحديات التي تواجه الإسلام والشعوب الإسلام في ظل التحولات العالمية الراهنة والمستقبلية وسبل موجهتها. إذ افرزت العولمة وتحولاتها الراهنة أنماطا جديدة من الظواهر والمشكلات الإنسانية والاجتماعية، وسرعة تحولها إلى مشكلات عالمية، كمشكلة سباق التسلح والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة العالمية والأوزون، ومشكلات التجارة العالمية والأزمات الاقتصادية وصدام الحضارات والاديان والتطرف والإرهاب، ومشاكل المال والأعمال العابرة للقارات. ومشكلات الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية ومشاكل الفقر والصحة والمرض، ومشاكل الهويات والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية والاندماج، والمخدرات والبطالة والفقر والحركات الاجتماعية، والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بحقوق الإنسان، ومشاكل السياسة والنظم السياسية والعدالة والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني. والمشكلات الأخلاقية للعلم؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل الفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي وأخرها فيروس كورونا كوفيد ١٩ إذ لم يحدث في التاريخ الاجتماعي للإنسان منذ حواء و آدم وأنت طالع أن توحد العالم كله كما وحده فيروس كورونا...
كل تلك المتغيرات والتحولات التي طالت كل مناحي الحياة الإنسانية والاجتماعية للعالم الراهن لا ريب وإنها قد أثرت على الشعوب والدول والثقافة الإسلامية ومن ثم فمن المهم على الفاعلين العالمين والمسلمين التصدي لها بإيجابية ووضعها موضع اهتماماتهم البحثية. والسؤال هو كيف يمكن الشعوب والدول والثقافات والاديان أن تتعايش في عالم شديد التقارب والتفاعل والاحتكاك؟ إن حاجة الشعوب العربية الإسلامية إلى التعايش والسلام اليوم كحاجتنا إلى الهواء والنوم، فليس بمقدور الإنسان أن يعيش زمناً طويلاً في قلق وتوتر مستفز في كنف الخوف والرعب والفزع في ظل غياب شبه تام لشبكات الحماية والأمن والأمان والعدل والحرية. بيد أن السلام كشرط ضروري لاستمرار حياة أي جماعة إنسانية مزقتها الحروب والخصومات لا يتم من تلقاء ذاته، بل يحتاج إلى جهود جبارة من العمل المثابر والإصرار العنيد على ترسيخ قيم التسامح والتصالح والتضامن والثقافة السلمية وادواتها في حل النزعات والمشكلات كما اشار خبير السلام الدولي، جين شارب في كتابه (البدائل الحقيقية). فالتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام التعايش الاجتماعي والسلم والسلام بين الناس ويسهم في إحلال ثقافة النضال السلمي، ثقافة اللاعنف محل ثقافة الحرب والعنف والقتل والتدمير والدمار بل يمكن القول ان فضيلة التسامح هي الحد الأدنى من إمكانية العيش والتعايش المشترك في مجمع سياسي مدني مستقر قابل للنماء والتقدم والازدهار...
وتهدف محاولتنا هذه إلى التوقف عند التسامح مصطلحا وفضيلة أخلاقية وقيمة ثقافية، ودلالاته ألمختلفة وسياقاته الممكنة بعده ركيزة اساسية للنضال السلمي والعدالة الانتقالية اذ يصعب الحديث عن اساليب المقاومة اللاعنفية بدون التسامح والتصالح والتضامن والحوار كشرط ضروري لحل المشكلات بالأساليب التفاوضية اللاعنفية...