سبتمبر مجيد ..
ما يُبقي الثورة حاضرة في وعي الأجيال هو ما تصنعه في حياتهم من تغيرات سياسية وتحولات اجتماعية ، وتطور اقتصادي ، ونهوض ثقافي وعلمي ومعرفي.
وكانت ثورة ٢٦ سبتمبر المجيدة قد نقلت البلاد من البؤرة المظلمة ، التي حشر فيها الأئمة ونظامهم الكهنوتي الشعب ، وأشبعوه ظلمًا وتخلفًا واستبدادًا ، إلى المسار الذي يتحقق فيه هذا التحول في كل فروع الحياة .
وفي هذا المسار ، الذي واجه الكثير من التحديات ، تحقق ما كان بالإمكان أن يشكل قاعدة انطلاق لمزيد من التطور والنهوض الشامل للمجتمع ، لولا أن هذه التحديات كانت قد أستنزفت الكثير من الجهد والطاقة والامكانيات ، وسحبها إلى خارج دائرة هذه العملية التاريخية .
وعلى تواضع ما تحقق ، مقارنةً بما تطلع إليه الانسان في هذا البلد العظيم ، إلا أن ذلك كان بحد ذاته كفيلًا بتعميق وشائج الثورة في وعي الشعب ووجدانه وعقله . فقدم التضحيات الكثيرة دفاعًا عنها حينما تعرضت للخطر ، ووقف مساندًا لها حينما أخذت تتحول إلى دولة في ظروف بالغة الصعوبة ، وقدم لها الدعم حينما أخذت أنظمة الحكم المتعاقبة تعيد إنتاجها في صور مختلفة من التشكيلات السياسية والمفاهيم الملغومة التي أخذتها بعيدًا عن أهدافها استجابةً لتقلبات السياسة والمصالح الأنانية ، والمؤثرات الخارجية السلبية .
ظل الشعب متمسكًا بثورته ، يتنفسها ، ويستمد من أهدافها ومبادئها ، وما يتحقق من تطور اقتصادي واجتماعي ومعرفي في حياته ، الآمال العريضة التي لطالما حلم معها بأن النهوض لا بد أن يتحقق مع المدى بتحويل التراكم الكمي إلى تحول نوعي ، باعتبار ذلك قانونًا موضوعيًا للعمليات الاجتماعية التاريخية . غير أن هذا التحول يتطلب استقرارًا سياسيًا لكي يتم في ظروف طبيعية وبدون أثمان باهضة .
ولذلك ، وبسبب ما تعرض له هذا العنصر الحاسم من اختلالات ، فقد كان الثمن الذي دفعه المجتمع لأي نهوض جزئي كان يتحقق في واقع الحياة كبيرًا جدًا ، وكانت الكلفة التي قدمها من عرقه ودمه وعمله ضخمة بما لا يقاس ، وهو ما مكن الثورة والجمهورية من الصمود في وجه الأعاصير وصور الخذلان المختلفة.
لقد ظل الشعب وفيًا لثورته بعد أن غدت معادلًا موضوعيًا للدولة التي ينشدها وللوطن الذي يتطلع إليه .
هذا الارتباط العضوي بالثورة له أسبابه القوية ، وهي التي جعلت من الثورة عند هذا الشعب قيمة من قيم الحياة التي تتجسد معانيها في حريته وكرامته واستقراره وتطوره ونهوضه . إن الثورة عند الشعب ، بهذا المعنى ، هي استمرار لكفاحه وتواصل مع نضاله من أجل بناء وطن مستقر ومتقدم ، ومهما تعرضت للانكسار ، أو التخريب أو لانتزاعها من الواقع الذي تتحرك فيه لتغييره ، ولا تفهم إلا به ، فإنها تظل حاضرة في الوعي ، وتنتقل من جيل إلى جيل ، وتبقى جديرة للاحتفاء بها ليس من باب الوفاء فحسب ، ولكن من باب الحاجة إليها كمسار لا غنى عنه لبناء الوطن ، وهذا ما يجب أن ينقل إلى جيل اليوم الذي بعدت بينه وبين الثورة المسافة ، وهي مهمة ما أصعبها من مهمة .
، سبتمبر مجيد وكل عام وانتم بخير ....