تقرير موسع: سالم بن بريك.. رجل المهمات الصعبة وصوت الدولة في زمن الشتات

منبر الأخبار:خاص
فتحي أبو النصر : طبعا في زمن تتكالب فيه الأزمات على اليمن من كل صوب، وتتنازع فيه الشرعيات والمشاريع والمصائر، يبرز اسم سالم صالح بن بريك كرجل مختلف.
ليس لكونه يحمل لقب "رئيس وزراء جديد" فحسب، بل لأنه في خضم هذا الركام، يبدو وكأنه يعيد تذكيرنا بما تعنيه كلمة "دولة"، ليس كشعار فارغ، بل كحلم مؤجل منذ سنوات الحرب، ومشروع قابل للترميم إن وُجدت الإرادة.
ففي الحقيقة لم تكن بدايته في المنصب تقليدية. إذ عقب أداء اليمين الدستورية، لم يعد مباشرة إلى عدن كما جرت العادة، بل اختار البقاء في الرياض، حيث "الكواليس الحقيقية" للحل اليمني، مدركا أن العودة بلا أدوات السلطة وبدون دعم ملموس، لا تختلف كثيرا عن صعود خشبة مسرح بلا نص ولا جمهور.
والأرجح أنه سيكون في عدن خلال يومين حسب مصادر موثوقة.
وأما في زمن تهافت فيه كثير من المسؤولين على الظهور الإعلامي دون مضمون، اختار بن بريك الصمت العملي والانشغال بالمهمة المستحيلة: إقناع الحلفاء بأن اليمن لم يعد يحتمل مزيدا من الوعود المؤجلة.
والشاهد أن هذا الرجل، الذي لا يعرفه الرأي العام كثيرا قبل تعيينه، يواجه تركة مثقلة:
اقتصاد على شفير الانهيار، عملة تترنح، كهرباء شبه معدومة، ومدن منهكة تتنفس عبر صهاريج مياه وتقتات على سلال غذائية توزعها سلطات "الشرعية" وكأنها جمعيات خيرية، لا مؤسسات حكم.
في مقابل دول، كقطر مثلا، توقع اتفاقيات بمليارات الدولارات مع دول كسوريا، الخارجة لتوها من حرب مماثلة.
لكن في خضم هذه المفارقة القاسية، يسجل بن بريك أولى خطواته كرئيس وزراء مختلف.
يفاوض، يلتقي، يطالب، يُراسل. يصدر توجيها لمحافظ تعز يطالبه بإيضاحات عن تعثر مشروع مياه الشيخ زايد بعد عامين من التدشين.
يتحرك بناء على مطالب نواب، ويحرك ساكنا في ملف مزمن كانت الحكومات السابقة تمر عليه مرور الكرام.
وهكذا إنه لا يدير أزمة المياه فقط، بل يفتح ملف المساءلة الإدارية من بوابة العدالة التنموية.
و:
لكن في الوقت ذاته، لا يقدم الرجل نفسه كمنقذ خارق، بل كموظف دولة يعترف أن "الملف الاقتصادي" أولويته القصوى، ويضع "صرف المرتبات" و"استقرار الريال" كخط الدفاع الأول عن ما تبقى من كرامة وطنية.
بمعنى أدق فإنه لا يستبق التقييم الشعبي لمجرد الظهور، ويُعلن أن عودته إلى عدن لن تكون "شكلية"، بل محملة ببشائر عملية – مرتبات تُصرف، كهرباء تتحسن، عملة تستقر، ومواطن يجد من يسأل عنه.
..ربما هنا يكمن الفارق الأهم في شخصية سالم بن بريك: الواقعية.
لا يبيع أوهاما، ولا يشارك في "مهزلة الشرعية بالجملة والتجزئة" كما يصفها البعض، بل يُدير الأزمة بعقل تكنوقراط يعرف لغة الأرقام والملفات والميزانيات، دون أن يتنصل من حساسية اللحظة السياسية.
وهو في ذلك يتقاطع مع ما تحتاجه اليمن الآن:
شخصية مرنة وقوية، تستطيع أن تتحدث مع الرياض وأبوظبي وواشنطن، دون أن تفقد نبرتها عند مخاطبة الشعب اليمني الذي أرهقته المعونات العشوائية وصراع الأجندات.
والصحيح، أن احتفاظ بن بريك بمنصبه كوزير مالية إلى جانب رئاسة الوزراء قد يؤدي إلى تداخل الصلاحيات وضعف التركيز على الملفات الحيوية.
فيما تعيين وزير مالية جديد يضمن التخصص وتوزيع الأعباء بفعالية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة التي تتطلب رؤية متفرغة وإدارة دقيقة للموارد والإصلاحات المالية.
على إن اليمن لا تحتاج اليوم لمجرد "رئيس وزراء جديد"، بل إلى رجل يجيد التنقل بين الألغام السياسية، ويتقن لغة الحلفاء، ويملك أدوات الضغط الناعم، ويستطيع إدارة دولة برأس مقطوع وجسد منهك.
لذلك لا مبالغة أن نقول إن بن بريك بدأ مهمته من النقطة الأصعب – من حيث التوقعات المنخفضة، والواقع المتشظي، والثقة المنعدمة.
ومع ذلك، يراهن البعض على "هدوءه" كقوة، وعلى "عدم ارتباطه بكتلة فساد معروفة" كفرصة، وعلى "تمسكه برؤية اقتصادية أكثر من كونه أداة سياسية" كجدار صد في وجه الانهيار القادم.
والشاهد أنه لا يمثل تيارا أيديولوجيا صارخا، ولا جماعة مناطقية متنفذة، لكنه يحاول أن يكون رئيس وزراء دولة واحدة، لا حكومة أمراء الحرب أو سلطات الأمر الواقع.
وأما في وجدان المواطن اليمني المتعب،فقد باتت الشخصيات السياسية تُمتحن بأفعالها لا بأقوالها.
وسالم بن بريك، صار الآن في أول اختبار حقيقي له، وقد بدأ حيث يجب أن يبدأ القادة الحقيقيون:
من التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفارق، من الماء، من الكهرباء، من الرواتب، من كرامة المعلم والجندي، من إنقاذ الريال، لا من التطبيل أو اللافتات.
طبعا لا نعرف إن كان سينجح، لكننا نعرف أنه يحاول. وهذا وحده، في زمن الانحدار العام، فضيلة كبرى.
لكن مؤشرات الاجتماعات التي جرت مع الجانب السعودي تجعلنا نقول شكرا من الأعماق لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، قائد الرؤية، وراعي المبادرات العظيمة، وحامل هم الأمة.
شكرا لدعمه المستمر لليمن، ووقوفه النبيل في أحلك الظروف، ومواقفه التاريخية التي تجسد الأخوة والمروءة.
حتما سيذكره اليمنيون دائما كعنوان للوفاء والعطاء، وقائدا استثنائيا يصنع الفرق في زمن التحديات.
لكن بقي على رئيس الوزراء الجديد سالم بن بريك أن يدرك بأن استمراره مع وزراء من الحكومة السابقة يتطلب منه إحداث فرق بلغة جديدة وتصحيحية تعكس وعود المرحلة.
لنخلص إلى أن عليه أن يُظهر قيادة واضحة، ويُعيد ترتيب الأولويات بروح إصلاحية تعزز الثقة، وتفتح أفقا للتغيير الحقيقي في الأداء الحكومي بما يلبي تطلعات المواطنين الحقيقية في الاستقرار والخدمات.