أسرى ذلك الحنين.
ربما لم تشهد تجربة حضوراً وتفاعلاً مجتمعياً، مثلما شهدته الحركة التعاونية التي ظهرت منتصف سبعينيات القرن الماضي، ولا تزال حية حاضرة في ذاكرة اليمنيين، كأنما حُفرت في عقولهم ووجدانهم.
وعلى امتداد الأرض اليمنية، في قمم الجبال الشاهقة، كما في بطون الأودية والسهول، لا تنفك الشواهد حاضرة الدلالة على ما أنجزته التعاونيات من مشاريع خدمية وإنمائية.
ذلك الثراء والتنوع في تنفيذ المشاريع من طرقات وسدود وكرفانات، ومدارس ومستوصفات، هو ما أكسب تلك التجربة المشرقة ألقاً متجدداً في نفوس أغلب اليمنيين، خاصةً ممن عايشوا التجربة وشهدوا منجزاتها.
اليوم.. وبعد عقود على هكذا تجربة متفردة، لم يُقّدَر لها المضي إلى منتهاها.. يشهد البلد حنيناً مُتّقداً لبعثها من جديد.
التاريخ لا يعيد نفسه، فلا يمكنك الشرب من ذات النهر مرتين، وهو ما يجعل محاولات إعادة استنساخ التجربة التعاونية بكليتها، عديم الجدوى، حال عدم مراعاة اشتراطات بيئتها ومسببات نجاحها التي كان من أهمها، توافر الموارد المالية، وتخصيص نسبة 70% من موارد الزكاة لها، فيما لم يتجاوز نصيب المساهمة المجتمعية حينها، الـ 30%، وهي نسبة على ضآلتها، أمكن للمجتمع توفيرها دونما عناء، لاسيما وهو يتلّقى سيلاً من الأموال جراء تحويلات المغتربين في الدول المجاورة التي كانت تشهد ربيعها النفطي.
غير أن بالإمكان استلهام التجربة والاسترشاد بعوامل نجاحها، وعدم الاكتفاء بالمخزون العقائدي والثقافي للمجتمع الذي يُعلي من سمة التعاون.. ما يستوجب البحث الجاد عن موارد لها، في ظروف غير مواتية وبيئة غاية الصعوبة، نتيجة تداعيات سنوات الحرب الكارثية،.. وتوظيف هذه الموارد في مشاريع تسهم في توفير متطلبات العيش الأساسية، عوضاً عن المحاولات العبثية للضغط على المواطن الذي اضحى عاجزاً عن توفير قوت أسرته اليومي، وإجباره على تمويل مشاريع يرى فيها ترفاً زائداً عن ضرورات معيشته.. وفاقد الشيء لا يعطيه.
أتذكر يونيو العام ٢٠١٤م، حينها ساد الاعتقاد بأن الفرصة باتت مواتية لإمكانية استعادة التعاونيات وبعث أمجادها .. بيد أن الحركة الاحيائية التي تصدرتها كوكبة متألقة من اليمنيين، اختفت فجأة كما ظهرت.. وبعد نشاطات محمومة طيلة أسبوعين، لم نعد نلمح لها أثراً.. وكأنما سحابة صيف عابرة..
أثق تماماً أن الحنين المتجدد لبعث التجربة التعاونية، يتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي، كحالة شعورية طاغية على الكثير ممن يرى في الماضي كل شيء جميل.. فالتجربة تستحق الإعادة.. فقط آمل أن لا يكون مصير المحاولات الحالية كما سبقها، وأن لا يغلب عليها الطابع العاطفي، وهو أمل لا سبيل لتحقيقه دونما دراسة اشتراطات النجاح وتوفير آليات لتجاوز مسببات الفشل المحتمل.. وإلا تحولنا إلى أسرى لذلك الحنين.