سحر في الطبيعة ولا معجزات في التاريخ ..


بروفيسور / قاسم المحبشي...

خلاصة المعنى؛لا توجد حلول سحرية لمواجهة تحديات الحياة وتدبير العيش في هذا العالم المتاح حتى عند الانبياء والرسل وهم الأقرب إلى الله القادر على كل شيء...

فمن الممكن أن يكتب الناس أجمل القصائد في روعة الحياة ويرسمون أبدع اللوحات في جمالها ويألفون أعظم الروايات في احداثها وأبطالها  ومع كل ذلك تظل الحياة تتحدى الإنسان وقدراته في كل مكان وزمان وتستدعي ما لديه من قوة فعلية وليست افتراضية...

 وقد تأملت في تاريخ العالم فوجدت أن كل شيء مرهون بالقوة؛ قوة الحياة بمعنى القدرة على النماء والحركة والتطور وقوة الفكر بمعنى القدرة على الإدراك والفهم والتخيل وبين القوة والعجز يدور التاريخ وقواه ولكل كائن في هذا الكون تاريخ واحد هو تاريخه الطبيعي الذي هو طبعة ونظام سلوكه وقواعده وقانونه؛ الحفاظ على البقاء ومقاومة الفناء..

 لكن للإنسان تاريخين: " تاريخ طبيعي يشارك به جميع الكائنات الطبيعية وتاريخ وضعي يضعه لنفسه ويضع فيه العلوم والآداب والفنون والسياسة والأخلاق والتشريع والزراعة والصناعة والعمارة.ولا يكون التاريخ إلا حركة وصراع وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف ورد فعل واتخاذ موقف في مواقع محمية وتبرير المواقف وتحصين المواقع بما يحقق القوة والحماية والعافية والآمن والآمان..

ولا يكون التاريخ إلا مجمل تاريخ صراع الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة الذي هو قصة تطوره الذي هو قصة تكيفه الذي هو رد فعل الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم والتاريخ تاريخان :تاريخ الضرورة والواقع والحياة وهو التاريخ الفعلي الذي يدور حول محول التجارة والحرب والاحتكار ..

وتلك حقيقة لا خير ولا شر  ولا جبر ولا اختيار، بل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى وحقيقة من حقائق التاريخ فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب. وتاريخ متخيل: تاريخ الحلم والأمل والرجاء والمثال الذي نريده ونتمناه ونحلم به يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والعدل والخير والجمال للجميع..

وحينما ينام المرء بمعدة فارغة تكون الأحلام جميلة وهادئة أما إذا كانت معدته ممتلئة فالكوابيس هي التي تتطلع منها باستمرار  وهكذا هو التاريخ الاجتماعي والسياسي للشعوب الراكدة يشبه المعدة الحية التي تتراكم فيها أحداث الماضية في طبقات رسوبية مُوحلة وتنشر سمومها في مختلف مجلات حياتها الحاضرة ومجاريها. فالتاريخ الذي لم يمضغ جيدا ويهضم جيدا ولم يفلتر ماضيه ويقتل بالبحث والدراسة والنقد والتطهير والتجديد والتغيير والتجاوز المستمر هو اخطر السموم التي تكبل حركة الشعوب وتعيق تقدمها لاسيما إذا كانت تقدسه...

 والتاريخ هو ما حدث في ما مضى وتم وانقضى ويستحيل استرجاعه ولا شيء يخرج من داخله ولا شيء يأتي اليه من خارجه. إذ هو دائما فاعلية الأحياء الناس الساعيين لتدبير حاضرهم وتجاوز ماضيهم وحينما يكون الحاضر مشبعا بالحيوية والنشاط والفعل والفاعلية والفرح والإنجاز ينسى الناس الماضي بكل عجره وبجره ولم يعد يخطر على بالهم ابدا إذ يكون حاضرهم الزاخر بالحياة المفعمة بالانجاز والسعادة ومستقبلهم الواعد بالتجاوز الخلاق هو الذي يشد إهتمامهم..

نقصد تلك الحياة التي نمنحها تسعة أعشار وقتنا، الذي نعيشه في عالمنا الواقعي المعيشي الفوري، بلا ماض ولا مستقبل، عالم اللحظة الحاضرة الراهنة المباشرة، عالم الحياة، وتدفقها بـ «ملموسيتها»، وكليتها، أي الحياة اليومية البسيطة المملوءة بالانشغالات الروتينية، والمتطلبات المعيشية الملحَّة الصغيرة، والروتينية، التي تستغرق الكائن الاجتماعي الساعي إلى إشباع حاجاته بمختلف الوسائل والسبل والحيل، والتقنيات، والعادات والتقاليد، والأساليب والصراعات، والرهانات والتفاعلات، والنجاحات والإخفاقات، والمكاسب، وكل أنماط العلاقات والممارسات اليومية، التي ننهمك فيها وتشكِّل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمَّته، أي الحياة بلا مزايا، التي يسمِّيها عالم الاجتماع جلير دوران بـ «الجو الخانق» أما إذ عجز حاضرهم الفوري المباشر عن إشباع لحظتهم المعاشة وجعلها جديرة بالحياة والحلم والأمل فالماضي هو الذي يعاود الحضور باستمرار بوصفه بديلا استيهاميا تبريريا لا يغني ولا يشبع من جوع..

. أننا نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك في الماء وليس بمقدورنا الخروج منه أو مغالطة استحقاقاته الفورية المباشرة فأما أن نستجيب إلى تحدياته ونتدّبر أمرنا في حاضره تجاوزه وأما سحقنا بعجلاته وتجاوزنا بقطاره الدائم الحركة. والتاريخ بهذا المعنى هو أخطر كيمياء اخترعها العقل الجمعي إذ تسكره وتشل حركته فيما تمنحه من أوهام مخدرة عن الماضي وبطولاته التي يستحيل استرجاعها الا بالأوهام القاتلة.
والفكرة الميتة الآتية من خارج الحياة والتاريخ الزاخر بالحاضر الحي المباشر بحسب كروتشة تعجز عن أنجاب حتى فكرة موتها وفي ذلك تكمن خطورتها وتتعين قوة قهرها. فما الذي يجعل الإنسان في أي زمان ومكان يعاود الحنين إلى الماضي الجميل؛ أنه ببساطة بؤس الحاضر وأنسداد أفق المستقبل...

 ومن السذاجة الطفولية الاعتقاد بأن رغبة الناس في استعادة ماضيهم هي حالة فطرية طبيعية وربما يعود سبب ذلك الاعتقاد الزائف في الثقافة العربية الإسلامية إلى العجز الطويل عن إنجاب حالة حضارية حديثة وجديدة تجعلهم ينسون ماضيهم وينهمكون في صناعة حاضرهم ويتطلعون ويخططون إلى بناء مستقبلهم الأفضل باستمرار فالمستقبل لا الماضي هو الجدير بالأهمية والقيمة والاعتبار في نظر وحياة كل الأجيال في كل زمان ومكان، وهذا أمر مرهون بالتاريخ وممكناته وليس بالإنسان ورغباته. صحيح القول: أن الناس يصنعون تاريخهم بانفسهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم بل في ظل الشروط التاريخية المعطاه لهم سلفا من ماضيهم فالاموات يتشبثون برقاب الأحياء. والتاريخ دائما وابدا هو أمام الناس لا خلفهم. ودمتم بخير وسلام...