عن زميل رحل..وآخرين خذلوه

عن زميل رحل..وآخرين خذلوه

منبر الأخبار

 

الأسيف/ جمال حيدرة

لست ممن يتقافزون على كتابة المراثي، والندب بالكلمات، مع ادعاء صداقات وثيقة بالراحلين، كما لا يوجد في أرشيف حياتي صورا ثنائية معهم، وإن وجدت، فليست للنشر، بل للذكريات الخاصة.

بشكل استثنائي سأكتب عن راحل لم ألتقي به قط، ولم تجمعني به ذكريات، غير أنه مثلني كزميل، وصوت، وكلمة، وعبّر عني كفكرة، وموقف، وقضية، وهذا الأمر بالنسبة لي أثمن بكثير من صداقات تفتحها المصالح، ويغلقها الخوف على المصالح، صداقات جامدة كالصور تماما، لا روح فيها، ولا مشاعر، ولا مواقف، ولا تقدير، ولا إنصاف.

تلك الصداقات، وذلك النوع من الزمالة، والرفقة، مجردة من أي قيمة إنسانية، واهنة الثقة بشرف المهنة، ومواثيق النضال، وعهد الأحرار لبعضهم، يوم كانوا في خندق واحد، ولا أحد معهم سواهم، يكتبون بقلم واحد، وأكبر مشاكلهم ندرة الأوراق.

سأكتب عن زميل رحل، وآخرين خذلوه، سأكتب عن نفسي، وآخرين يذبحهم الصمت مثلي، سأكتب عن الصمت كموت بطيء يزحف على خارطة ضمائر صمّاء، وقلوب غُلف، وألسنة لم تعد تصلح إلا لتذوق مغريات المال والسلطة، وعقول لم تعد تفكر إلا بما يضمن دوام النعم.

سأكتب عن الزميل نزار الماس، وقد غادر الحياة مخذولا، وعن جدوى الصور التي نُشرت بعد موته، وما رافقها من عبارات مؤثرة، وبيانات نعي، عن نضال الفقيد، وما اجترحه من تضحيات، وعنه كصحفي متمكن وقدير.

عاد الفقيد من منفاه بعد عقود من الشتات في إحدى الدول الأوروبية، يبحث عن وطن يعوض ما فات من حياته، أو هكذا خال له، وفي صفحته على الفيس بوك فيديو يوثق لحظة إقلاعه، بدا فيه في غاية السعادة، يترنم مع أبو بكر سالم بن الفقيه، ويدندن" بالله يا طيار عجل بالمسير، شمسان ذه بعده على قلبي عسير" 

وصل الفقيد عدن، مدينته ومسقط رأسه وراح يذرعها شبرا شبرا، ويعانق بناظريه كل ما فيها بشوق، في حين أطلت عليه من كل نافذة، وشرفة، ترقب خطواته بفرح، وتتذكر إطلالته من شاشة عدن لايف، وهو يذيع أخبارها بلسان عدني مبين، تكتسي وجهه سمرتها، وفي دمه بساطتها وطيبتها.

عاد نزار لكي يستقر في عدن، غير أنه لم يجدها، وفي رواية أحد أقاربه تفاصيل عودته، وملابسات مغادرته، ومما جاء فيها أن الفقيد قد انصدم بالأبواب المغلقة، ولم يجد ما جاء من أجله، ولم يكن يريد أكثر من الاستقرار بوظيفة تؤمن له ما تبقى ما عمره.

وفي صفحة الفقيد بعض من التلميحات، عن خيبة صفعت أمنياته، وغادر على إثرها عدن، ومن ثم الحياة، ولا يمكن أن يكون هناك رابط أكثر من انكسار الروح عقب لحظات من الأمل، وقد تكون صدمة العقل بقتامة الواقع.

رحل نزار، غير أن ما في صفحته على الفيس بوك ما يعيننا على التأمل طويلا في واقع نعيشه، ولا نستطيع أن نعبّر عنه إلا تلميحا، أو كرموز.

أما ما اقترفه الزملاء والرفاق بحق نزار فهو ذنب لا يغتفر، وهم أكثر من يعرفه، ويعلمون يقينا قيمته، وقدره، غير أنهم تجاهلوا أمنياته، ولم يقف بجانبه أحد منهم، وأقسم لو أنني مكان واحد منهم لظللت أصفع نفسي كل العمر.

رحم الله نزار رحمة الأبرار، وصادق تعازينا، ومواساتنا لأهله، ومحبيه.