إلى أين تمضي يا فتحي أبو النصر ؟؟..

في عتمة الأزمنة التي تسابقنا على اقتناص ضوء خافت خلف الجدران، ينهض سؤال صارخ يتلون بظلال الماضي والمستقبل: إلى أين تمضي يا فتحي أبو النصر؟
لم يكن الزمن يوما سخيا في تقديم إجابات سهلة. فالطريق التي نسلكها، مهما بدت واضحة، تختبئ خلفها مسارات متشعبة، بعضها يؤدي إلى الغرق في عمق الحلم، وبعضها الآخر يفضي إلى الجفاف في حضرة الحقيقة.

ولكن، لنبدأ الحكاية من البداية.

قل أنه الغيم المتأمل في مرآة التراب

لقد قالوا لنا: "الحب موجود في كل مكان"، ثم أعطونا خريطة مزيفة وأطلقونا في أرجاء العدم. كمن يبحث عن قط في عرين أسد، وجدنا أنفسنا نقتفي أثر حلم يتبخر، يتلون، ويراوغ.
فتحنا صفحات جديدة مع الغيوم، ظانين أنها ستجيب على أسئلتنا. ولكن، ماذا يفعل الغيم حين تسد الطيور المعقدة نفسيا طريقه؟ ماذا يصنع الحب حين يصبح ظله شبحا على حافة اليأس؟
إنه الصراع الأزلي بين الواقع والمجاز، بين القيم التي صنعناها بأنفسنا ثم وجدناها تعرقل خطواتنا. المجد، الظلام، الكبرياء، كلها أصبحت عقبات في درب الإنسان الباحث عن ذاته.

قل أنها المرايا الكئيبة وشعب الحجارة

ففي عمق هذا التناقض، يكمن شعبٌ يناضل بالتراب والحجارة، يحمل على عاتقه تاريخا طويلا من الكرامة المهدورة. شعبٌ عاش ليلا طويلا وشفاها قارسة، يأكل الحصى بدلا من الخبز، ويتجرع الموت بدلا من الماء.
فتحنا عيوننا على مرايا كئيبة تعكس وجوهنا المحطمة، وصور آبائنا وأمهاتنا، وأطفالنا الذين ينتظرون ربيعا لا يأتي.
لكن، يا رفيقي فتحي أبو النصر، ما الذي نفعله حين يصبح الصباح حلما بعيدا؟ هل نبحث عن نجمة تضيء في ليلنا الطويل؟ أم نكتفي برائحة الماضي، بقرميدة حمراء من سطوح بيوتنا، وخصلة من شعر أم مهمومة تطبخ الحساء تحت ضوء القمر؟

قل أنه الصهيل الحزين وأعراس الحصاد

لقد كان الحلم يوما بسيطا: شايٌ قرب المعصرة، غرامٌ يائس أمام العتبات، وأغان تُغنى في أعراس الحصاد.
لكن الزمن لا يعرف الرحمة. فقد سرق منا كل شيء، حتى صندل طفولتنا المعلق في عريشة العنب.

قل أنها الثورة التي لا تموت

ويا فتحي أبو النصر، أنت تحمل في أعماقك ثورة لا تخمد. ثورة تتحدى كل قهر، تتجاوز كل حدود، تتشبث بالحياة كما تتشبث الكروم اليابسة بجذورها في أرض جافة.
هذه الثورة ليست فقط غضبا ضد الظلم، بل هي صرخة حياة في وجه الموت. هي إصرار الإنسان على التمسك بالأمل، حتى حين يبدو الأفق قاتما.

قل هي صنعاء... عربة السبايا الوردية

في زحمة المدن، في أزقة صنعاء، حيث تختلط وجوه المارة بمآسي التاريخ، تساءلت: هل يمكننا أن نكسر قيودنا ونصنع مستقبلا جديدا؟
عشرة أعوام  ونحن ندق أبواب الأمل الصلدة، والمطر يتساقط على أجسادنا وأطفالنا. ولكن، هل يُسمع نواحنا؟ أم أن الرياح تحمل صرخاتنا إلى العدم؟

قل أنه الإنسان الذي لا يهدأ

ويا أيها الغريب المتأمل في المارة من نافذته العالية، أنت لست مجرد كاتبٍ يبحث عن الكلمات، بل إنسانٌ يبحث عن ذاته في مرآة العالم.
أنت الحلم الذي يتشظى، الجرح الذي لا يلتئم، الثورة المعتوهة التي لا تنطفئ.

ولكن إلى أين تمضي، يا فتحي أبو النصر؟

اعتقد انك تمضي إلى حيث لا تمضي الرياح. إلى حيث يقف التاريخ عاجزا عن الكتابة.
تمضي إلى حلم يتجاوز حدود الممكن، إلى أمل يتحدى قوانين الواقع، إلى حياة تتشبث بأهداب المستحيل.

ولكن أنت تمضي إلى الثورة المستمرة، إلى الشمس التي تشرق مرة واحدة كل يوم، لكن ضوءها يبقى أبديا في قلوبنا.
وها إننا نضحك من أوجاعنا اليوم، تلك الأوجاع التي دمرتنا بالأمس.
نُلقي بأنفسنا في حضن الحياة، كما تلقي امرأة يائسة نفسها من فوق ناطحة سحاب، لا لنهرب من الألم، بل لنعانق الحقيقة.
هذه لعبتنا الضارية، هذه حكمتنا الساذجة.

فيا فتحي أبو النصر، امضِ إلى حيث لا تمضي الرياح.
اكتب قصيدة جديدة، ابدأ ثورة أخرى، وعلمنا كيف نحلم حين تبدو الأحلام مستحيلة.
ولكنك تمضى إلى ما لست تعرف أو هكذا ترد على فتحي أبو النصر 
لذا أيها العابر بين غيوم اللغة، الباحث عن خريطة الحلم في عرين الأسئلة، ماذا وجدت؟
هل ناداك الغيمُ بماء غير مألوف؟ أم أنك ابتكرت عطشا جديدا لتبرير بقاءك؟
ويا فتحي أبو النصر، ماذا بقي منك في المرايا؟
أيُّ وجه هذا الذي يقفزُ من شقوق الذكرى، يُحاور الغبار، ويُعاتبُ الريح التي تخلت عنك؟

قل هي صنعاء... سيدة الزمان الكسيرة؟!
صنعاءُ التي وعدتك يوما بأحلام من ذهب، ماذا تركت في جيبك غير الفتات؟
صنعاء التي كانت قُبَّةً فوق رؤوس الشعراء، وصحن النجوم المقدس، أضحت اليوم كومة رماد في مهب الريح.
ونسأل: أيا صنعاء، لماذا بعثرت أحلام أولادك؟
ألم يكن الهواء الذي استنشقه فتحي أبو النصر يوما صافيا كقلوب البسطاء؟
كيف أغلقتِ أبوابكِ في وجهه، وصنعتِ من النوافذ مرآةً تنعكسُ عليها أحزانهم فقط؟..