عشَر دقائق هزت العالم !!!..
منذ أن أصدر الكاتب الامريكي "جون ريد" كتابه الشهير " عشَر أيام هزت العالم " عام ١٩١٩ ، والذي يتناول أحداث الثورة الروسية يومذاك ، مر العالم منذ ذلك الوقت وحتى اليوم بحروب وتبدلات جوهرية أخذت تغير وجه الحياة على كوكب الأرض على نحو لم تستقر فيه على حال واحدة .
شمل التغيير ،فيما شمل ، الثورة الروسية - السوفييتية نفسها ، وجاء بشخص مغمور من خارج الدائرة التي ظلت تصنع الحكام والقادة في هذا البلد القاري ليرث الحكم ، ويقود آلياته ومكَنَتْه الشائكة في ظروف غاية في التعقيد .
سيصبح هذا الشخص (بوتين) فيما بعد محور أحداث دولية ، انقسم العالم إزاءها ، وستكون "قطعة الحلوى" السوفيتية القديمة (أوكرانيا) الموقع الذي يعاد فيه اختبار تماسك النظام العالمي الجديد ما بعد سقوط جدار برلين ، وانهيار الاتحاد السوفييتي ، وتحول روسيا الاشتراكية إلى ساحة ورثت فيها الأوليجارشية الروسية ، المخلّقة بيد القيادة السياسية والعسكرية الجديدة ، مؤسسات الدولة وثروات هذا البلد الغني والمتنوع القوميات والثقافات والثروات ، وبتاريخه الطويل في العمل من أجل بناء نظام اشتراكي يقوم على اقتصاد دولة صناعي متطور . لم تستطع هذه الأوليجارشية التي خرجت من رحم دولة النظام الاشتراكي اللينيني أن تبدل سريعاً جلد الدولة المنهوبة من قبلها لتكسبه لون الرأسمالية ، فرحلت بأموالها إلى بلدان الرأسماليات العريقة التي سهلت لها المهمة ، وبدلاً من أن تعلمها أصول وقواعد التحول الرأسمالي المنتج ، فقد شجعتها على السير في الطريق المفضي إلى النموذج الطفيلي للرأسمالية من خلال بناء إقتصاد ريعي ، مصدّر للخامات ومستورد للمنتجات العالمية في تقسيم دولي مشوه للعمل ظل عهوداً طويلة محط نقدٍ للمنظرين الاشتراكيين الروس .
وحينما تبين لبوتين أن معظم آليات الدفع الداخلي للاقتصاد الروسي ، ومعها ديناميات الفعل السياسي ، قد أخذت تتعطل واحدة تلو الأخرى لتحدث تأثيرات سلبية جوهرية في الوضع العام لهذه الدولة العظمى ، كان الوقت قد تأخر عن القيام بالاصلاحات الضرورية . كان هناك جيل جديد يجوب شوارع موسكو وبطرس برج ( لينينغراد) والاسواق والحوانيت المترعة بالسلع الفاخرة والثمينة التي تحمل العلامات التجارية العالمية .
صار سوق الفلاحين الروس الشهير الملاصق للكرملين مولاً ضخماً تعرض فيه أحدث المنتجات والماركات العالمية، يؤمه الأثرياء ليشهدوا التغير الهائل الذي حل بمهد الاشتراكية العلمية ، ويسجلوا حضوراً فعالاً في تعميد ذلك التغيير من خلال الانفاق الباذخ على سلع صار اقتناؤها تعبيراً عن إعادة تكوين المجتمع الطبقي لروسيا ، ويعكس تحولاً سيكولوجياً لدى الطبقة التي ستشكل القاطرة التي تقود روسيا نحو العالم الجديد .
وفي أماكن أخرى تحولت كثير من مصانع وورش الانتاج إلى معارض للسيارات ذات الماركة العالمية ،أمريكية ، بريطانية ، المانية ، يابانية ..الخ . وغدت المقاهي القديمة محلات لبيع البرجر ، ماكدونالدز ، بيج ماك ، ماك رويال ، تشيز بيرجر . أما في احد أكشاك الفن والموسيقى في شارع "أربات" وسط موسكو فقد اختفى فيها كل ما يذكر الناس بمواويل القوزاق وترانيم "الدون الهادئ" التي صاحبت الاغنية الشهيرة " سأمتطي حصاناً قوزاقياً يليق بك" ، وراحت تنبعث منها أغنية " باي ذي ريڤر بابلون ، وير وي سات داون " ، " تيك ماي بريث " .
ولمواجهة هذا التعطيل المتسارع وجد بوتن نفسه في مأزق حقيقي ، فالطبقة التي أهّلها لمغادرة النظام الاشتراكي ، وسلمها أمر الدولة ، كانت غير قادرة على أن تأخذ روسيا إلى الرأسمالية المنتجة والصناعية القادرة على أن تتكافأ ، من حيث القوة والقدرة والمنفعة ، مع غيرها من روافع النظام الرأسمالي العالمي ، لذلك أخذ عوضاً عن ذلك يعيد بث روح القومية الروسية ، وإلى جانبها الاستعانة بالأرثوذكسية المتعطشة لاستعادة دورها ومكانتها في صياغة وتكوين الشخصية الروسية بتراثها وتقاليدها التي أخذت تتخلص على نحو سريع مما لحق بها من " إذلال" بتعبير كثير من المفكرين القوميين الروس ، الذين رأوا أن الغرب لم يفتح لروسيا ذراعيه كشريك ليصبح جزءاً منه ، بل لقد عامله ، من وجهة نظرهم ، كخصم مهزوم ، راح بموجبه يعبئ حلفاءه القدامى ويلحقهم بالناتو والاتحاد الأوربي ، ويحرض على التغييرات السياسية التي أخذت تشكل طوقاً يضيِّق على روسيا الخناق .
وأياً كانت صحة هذه النظرة من عدمه ، إلا أنها وظفت في إعادة انتاج الشخصية الروسية القومية التي أخذت تجسد حالة من العصبية التي راحت تسدل ستاراً على الاخفاقات التي شهدتها روسيا بشأن التحول إلى النظام الرأسمالي ، والاندماج من ثم في سوق هذا النظام . وعلى الرغم من انضمامها الى مجموعة الثمان الاقتصاديات الكبرى إلا أنها كما ، يقول منظروها ظلت خارج التأثير الفعلي بسبب دورها المرسوم لها كمنتج ومصدر للمواد الخام ، وحتى الصناعة الحربية فقدت زخمها ، ناهيك عن تراجع مكانتها في التصنيع الفضائي وتحطم المركبة الفضائية التي ارسلتها لاكتشاف الوجه المظلم من القمر ، عام ٢٠٢٣ بينما نجحت الهند في نفس العام .
ثم جاءت حرب اوكرانيا عام ٢٠٢٢ في ظروف أغلقت فيها فرص السلام ، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية يجري الحديث عن اللجوء إلى استخدام السلاح النووي ، ووضع العالم على حافة حرب عالمية ثالثة . لقد غطى غبار حرب أوكرانيا على الحروب التي تشهدها مناطق أخرى ، ومنها حرب اليمن التي أشعلها الحوثي ومن ورائه إيران ، وأخذت تنشئ الاستقطابات القارية والدولية على نطاق واسع وتشي بإمكانية ولادة نظام عالمي جديد راح يتخلق داخل رماد هذه الحرب ، وعلى نحو لا يدري أحد على أي نحو كان سيستقر .
جاء ترمب مرة أخرى الى البيت الأبيض عبر انتخابات منحته فرصة تاريخية لإعادة ضبط ايقاعات الأحداث والمتغيرات الدولية بصورة تتناغم مع ما أعلنه عن إعادة الاعتبار للدور الأمريكي . لقد أخذ ترمب يركز على هذه المسألة من خلال هجومه على الادارة الديمقراطية ، بقيادة بايدن ، التي يعتقد ترمب أنها فرطت في الحف