أُسطورةُ الخَضِرِ .. مِنْ أبينَ إلى العراقِ:صفاتُه وسرديّاتُه (2)
منبر الأخبار
أهلُ أبينَ لا يُحدّثونَ بسرِّ خلودِ(الخضرِ) إنّما يُدرِكُ بعضُهم أنّهُ (العبدُ الصالحُ) الذي لَقِيَ مُوسى قبلَ قرون ليعطيه درساً في التواضعِ ويعلمه، ويَتداولونَ صفاتٍ جسديّةً تُميزهُ تلتقي مع السَّردياّتِ العربيَّة وتختلفُ قليلاً.
يقولُ مَنْ لقيَه؛ ولم يُدرِكْ أنّهُ الخضرُ إلّا بعدَ فواتِهِ واختفائِهِ العجيبيِْن: إنَّ بؤبؤَ عينيهِ يتحرّكُ كالزئبقِ!... و إبهامُ اليدِ اليُمنى لا عظمَ لهُ...! لذلك إذا صافحَ بعضُ الناسِ غريباً فإنهم يَتَحسّسونَ إبهامَه؛... علّهُ أنْ يصادفُ الخَضِرَ؛ والمصادرُ المحليّة تضيفُ أنّ الخضرَ بلا أظافر في أصابِعِ يديه ورجليه، وفي روايةٍ مناقضةٍ تذكر أن أظافرَهُ خضراءُ!
تمكثُ رائحتهُ لأيامٍ في المكانِ أو المسجدِ الذي يحضر فيهِ متخفيًا بأسمالٍ باليةٍ للفقراءِ، وإذا بهِ أولُّ من يُغادر!.. لا يَنسى المحظُوظُونَ بلُقياهِ كلماتِه ورائحته؛ خُرافيةٌ من خارج المعمورة؛ فهو من رُوحِ اللهِ مخلوقٌ بزعم غُلاة المتصوِّفة.
أثرُ قدمِهِ على الأرض بطول ذراع وبين الخطوة والخطوة فرسخٌ، وحيثما كان الأثرُ؛ ينمو الزرعُ ويخضرُّ الترابُ!
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إنما سُمّي الخضِرُ لأنّه جلس على فَروة بيضاء، فإذا هي تهتزُّ مِن خلفه خضراء
ويشرح ابن الأعرابي: الفروةُ أرضٌ بيضاءُ ليس فيها نباتٌ، وحُكي عن مجاهد: أنّه قيل له الخضر ؛ لأنّه كان إذا صلّى اخْضَرَّ ما حوله!
أسطورةُ الخضرِ في أبينَ (مجتمع الدراسة) تقومُ بوظيفة اجتماعية تربوية فمُسمّى (الخَضِر) يُخفي خلفه حكاياتٍ تنمِّي قيَماً أخلاقية مضادّة للظلم الشديد (الشر)، فيغدو الخضرُ رمزًا للخير والبذل؛ نسعى إلى تحليل أنساق الأسطورة والبُنى الاجتماعية ووظائفها بعد استكمال عرضِ السّرديّاتِ العربيّة.
ما يثيرُ الغرابة أنّ قصّة الخضر مع موسى رغم ثبوتها في الوعي الديني وحضورها في سرديات الأمم الشرقية والشعبية؛ إلّا أنّها لم ترد في الكتاب المقدَّس بعهديْه القديمِ (التوراة) ولا (الإنجيل) الجديد!
إنّما تردُ بمضمونِها مختلفةً في التُّلمود( تفاسير التوراة وشروحه)؛ حيث ذُكرت في نصوص تعودُ إلى القرن الثالث الميلادي تتحدث عن اثنين من الأحبار طلب فيها، (يُوشَع بن لاوي) أن يلتقيَ أعلمَ أهلِ الأرض، فكرَّمه اللهُ بِلقاء (إلياس)، وجاء في القصة التلمودية سفرهما معاً، لكن إلياس اشترط على يُوشَع ألّا يَسأله عن شيء يفعله مثل الخضر مع موسى مع اختلاف بعض أحداث القصة قليلاً، ولا مقام هنا للخوض في تفاصيل هذه الاختلافات، إنما سنقف مع تماثلات الخضر وإلياس مع القدِّيس (مارجريس) الأسطوري حيث التماهي إلى درجة التطابق.
بعضُ السّٕرديَّات الإسلامية تُكْسِبُ النبي إلياس صفة الخلود قرينًا للخضِر
فالإمام السيوطي يراهما خالديْن في الأرض، كما النبيين: عيسى وإدريس، إلّا أنّ إدريسّ والمسيحَ رُفِعا إلى السماء، أما الخضر وإلياس فيعيشان في الأرض، ونُسِبَ للحسن البصري، قوله: وُكِل إلياسُ بالفيافي، ووُكِل الخضر بالبحور، وقد أُعطيا الخلدَ في الدنيا إلى الصيحة الأولى، وهما يجتمعان في موسمٍ كلَّ عام، حسبما نقل ابن حجر.
إلا أن عدداً من الفقهاء يردّون على ادّعاء الحسن البصرى ومن وافقه على ذلك؛ فيتزعَّم (ابن تيميّة) حرباً وتياره السلفي إلى يومنا هذا على من يقولون بخلود الخضر؛ لكنَّ بعضَ تلامذته كانوا متردِّدين في نَفي تلك القصص ، ويجمع ابن تيمية وفريقه على صحة رواية البخاري ومسلم.
يبدو أن ثمَّة من كان يُحدّث برواية التُّلمود المعارِضة في شخصياتها للقصة القرآنية ويزعم أنه ليس موسى، فيكون سببًا في ذكر الحديث كما أخرجه البخاري ومسلم:
قال البخاري: حدّثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا هشام بن يوسف: أن ابن جريح أخبرهم قال: أخبرني يَعلَى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدّثه عن سعيد قال: إنَّـا لَعِنْدِ ابن عباس في بيته، إذ قال: سلوني، قلت: أي أبا عباس، جعلني الله فداءك، ((بالكوفة رجُلٌ قاصٌّ يقال له نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل، أما عمرو فقال لي: قد كذب عدوُّ الله))، وأما يَعلى فقال لي: قال ابن عباس: حدَّثني أُبَـيُّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موسى رسول الله عليه السلام، قال: ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون ورقَّت القلوبُ ولَّى، فأدركه رجل فقال: أيْ رسولَ الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب عليه إذ لم يرُدَّ العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي ربِّ، فأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أي ربِّ، اجعل لي عِلْماً أعلم ذلك به، فقال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت، وقال لي يَعلى: قال: خذ نوناً ميتاً، حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً فجعله في مِكتَل، فقال لفتاه: لا أكلِّفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلَّفت كثيراً، فذلك قوله جلَّ ذِكره {وإذ قال موسى لفتاه}. يوشع بن نون، - ليست عن سعيد - قال: فبينما هو في ظِلِّ صخرة في مكان ثريان، إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسيَ أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر، حتى كأن أثره في حجر. قال لي عمرو: هكذا كأن أثره في حجر - وحلَّق بين إبهاميه واللتين تليانهما - لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: قد قطع الله عنك النَّصَبُ - ليست هذه عن سعيد - أخبره فرجعا، فوجدا خَضِراً. قال لي عثمان بن أبي سليمان: على طَنفسة خضراء على كبِد البحر، قال سعيد بن جبير: مسجَّى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه، فسلَّم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام، من أنت: قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلِّمني مما عُلِّمتَ رُشدا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلَمه وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلَمه، فأخذ طائرُ بمنقاره من البحر، فقال: والله ما عِلمي وما علمُك في جنب علم الله، إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر، حتى إذا رَكِبا في السفينة وجدا معابر صغاراً، تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، عرفوه، فقالوا: عبدُ الله الصالح - قال: قلنا لسعيد: خَضِر؟ قال: نعم - لا نحمِلُه بأجر، فخرَقها ووتَدَ فيها وتداً، قال موسى: أخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئتَ شيئا إمرا - قال مجاهد: مُنكِرًا - قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً، كانت الأولى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً، قال: لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا ترهقني من أمري عسراً، لَقِيَا غلاما فقتله. قال يعلى: قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون، فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسِّكين، قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس - لم تعمل بالحِنْثِ، وكان ابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاماً زكيّاً - فانطلقا فوجدا جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامه - قال سعيد بيده هكذا، ورفع يده - فاستقام - قال يَعلى: حسبتُ أن سعيداً قال: فمسحه بيده فاستقام - لو شئتَ لا تخذتَ عليه أجراً - قال سعيد: أجراً نأكله - وكان وراءهم - وكان أمامَهم، قرأها ابن عباس: أمامَهم ملِكٌ. يزعمون عن غير سعيد: أنه هَدَدُ بنُ بَدد، والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور - ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فأردت إذا هي مرَّت به أن يَدَعَها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها - ومنهم من يقول سدُّوها بقارورة، ومنهم من يقول بالقار - كان أبواه مؤمنيْن وكان كافراً، فخشينا أن يُرهقهما طغياناً وكفراً، وأن يحملهما حبُّه على أن يُتابعاه على دينه، فأردنا أن يُبدِلَهما ربُّهما خيراً منه زكاةً، لقوله أقتلت نفسا زكيَّة، وأقرب رُحمَا، هُما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خَضِرُ). وزعم غير سعيد: أنهما أُبْدِلا جاريةً، وأما داوود بن أبي عاصم فقال: عن غير واحد: إنها جاريةٌ.
يتبع بإذن الله
مجيب الرحمن الوصابي